حين تكتب الظلال وتتكلم المقاعد الفارغة
عمر الجيلاني

سطور يخطّها عمر جيلاني
حين تكتب الظلال وتتكلم المقاعد الفارغة
أحيانًا لا يأتي الضجيج من كثرة الأصوات، بل من خوائها.
في كل زاوية من هذا الفضاء، يولد من يظن أن امتلاك صفحةٍ يعني امتلاك رأي، وأن الجدل في المقاهي شهادة ميلادٍ للصحافة.
يتحدثون عن الشأن العام من على الكراسي التي اعتادت الصمت، يكتبون كما يتحدث العابرون في الطُرقات: كلامٌ يلمع ولا يُضيء.
هناك من احترف الحديث عن الرجال بعد رحيلهم، وكأن الميت متاحٌ للتجريب النقدي بلا رقيب.
يختار أسماءً كانت يومًا عنوانًا للإنجاز، ثم يُحاكمها بسطورٍ خالية من الفهم، كأنما أراد أن يلمع في ظلالٍ صنعها غيره.
تراه يكتب عن من حمل الأمانة، وقاد المسؤولية، ورفع اسم البلاد حين كان الصمت عنوان المرحلة.
يتناسى التاريخ القريب الذي يعرفه الناس، ويتذكر فقط ما يبرّر به ضجيجه العابر.
في مهنةٍ تُبنى على المواقف، لا على الحكايات، يظهر جيلٌ جديد من الكُتّاب لا يعرفون من القلم سوى “النسخ واللصق”.
يقتبسون التصاميم، يخفون التواقيع، يسرقون الجهد، ثم يتحدثون عن النزاهة كما يتحدث الصدى عن الأصل.
وحين يُسألون، يردّون بلا اكتراث: “ما عندك موضوع؟”
وكأن الأخلاق فرعٌ يمكن الاستغناء عنه في شجرة المهنة.
تتكرر المشاهد: كبار في السن، صغار في الفعل، يظهرون في المواقع كأنهم منارات الفكر، فإذا واجههم الواقع سكتوا عن أول سؤالٍ بسيط.
خطاباتهم متخمة بالمفردات، خالية من المضمون، تشبه فناجين قهوةٍ تُقدَّم باردة على موائد الكلام.
لا مشروع، لا فكرة، لا مضمون سوى إعادة تدوير الضجيج.
ما يحدث ليس نقدًا، وإنما تسليةٌ متنكرة في ثوب المقال.
ليس بحثًا عن الحقيقة، وإنما بحثٌ عن حضورٍ مفقود.
وهكذا يتحول الرأي إلى مهاترة، والمقال إلى مكايدة، والكلمة إلى وسيلةٍ لإشباع النقص لا لتنوير العقول.
وفي خضم هذا كله، قد يظن البعض أننا نعجز عن ذكر الأسماء،
لكن الحقيقة أننا أرفع من أن نلوّث السطور الطاهرة بأسماءٍ لا تستحق الذكر.
فالكتابة مقامٌ لا يليق بكل من يتسلق حروفها.
في زمنٍ كهذا، يصبح الدفاع عن القيم واجبًا، لا ترفًا.
يصبح الصمت خيانة، والرد ضرورة، حين يُمسّ من كانت لهم بصماتٌ لا تُمحى وإن تغيّر الزمان.
ستبقى الكتابة مقياسًا للضمير لا للضوضاء، وستظل الأقلام الصادقة تُكتب بالحبر، لا بالحقد.
أما أولئك الذين يختبئون خلف ضجيج “المنشورات”، فسينتهي صداهم مع أول رياحٍ تمرّ على المقاهي.
بصيرتي برس..بصيرة الوطن